وضعت فضيحة “أوراق بنما” النظام المالي والقانوني لهذا البلد الواقع بأمريكا الوسطى، محط أنظار العالم، إثر نشر سلسلة من التحقيقات الصحافية الدولية حول تورط واحد من أشهر مكاتب المحاماة، في تأسيس الآلاف من الشركات الوهمية لفائدة رجال أعمال وسياسيين عبر العالم، تمكنهم من تأمين ثرواتهم من مقص الضرائب وآليات الرقابة الدولية المفروضة على أنشطة التهرب الضريبي وغسيل الأموال.
وتحصلت وسائل إعلام دولية على 11,5 مليون وثيقة صادرة عن مكتب المحاماة (موساك فونسيكا) المتخصص في الخدمات القانونية وتأسيس وتوطين شركات الأوفشور، وتغطي هذه الوثائق الفترة الممتدة من 1977 إلى غاية 2015، والتي قام خلالها المكتب بتأسيس حوالي 250 ألف شركة لفائدة “مستثمرين أجانب” ببنما وعدد من “الجنان الضريبية” بالعالم، وهي الشركات التي قد يتم استغلالها في أنشطة غير قانونية.
وأعادت التحقيقات، التي نشرتها وسائل إعلام منضوية في الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين، بعد أشهر من التحريات، إلقاء الضوء على النظام الإداري والمالي لبنما، والذي كان محط انتقادات من مؤسسات مالية دولية بسبب الثغرات التي تتيح القيام بأنشطة غير قانونية، على علاقة بالتهرب من أداء الضرائب وغسيل الأموال وتمويل الإرهاب.
وفي أول رد فعل رسمي على هذه التحقيقات الصحافية الدولية، أعلنت الحكومة البنمية، عبر بيان صادر عن رئاسة الجهورية، عن عزمها “التعاون بشكل وثيق مع أي طلب، كما ستقدم المساعدة اللازمة لأي مسطرة قانونية”.
وذكرت الحكومة بأنها تنهج سياسة “عدم التسامح” مع أي جانب من جوانب النظام القانوني أو المالي لا يحترم “المعايير العليا للشفافية”، مذكرة بأن حكومة الرئيس خوان كارلوس فاريلا أبانت، خلال 21 شهرا من توليها السلطة، عن “التزام من أجل الشفافية في الخدمات القانونية والمالية”.
من جانبها، أعلنت النيابة العامة عن فتح تحقيق حول المعلومات الواردة في التحقيقات الصحافية الدولية.
ويأتي الكشف عن الوثائق بعد أسابيع قليلة من سحب بنما من “اللائحة الرمادية” لمجموعة العمل المالي الدولي للبلدان الأقل تعاونا في مجال التهرب الضريبي وغسيل الأموال، وهو القرار الذي نظمت الحكومة البنمية على شرفه “حفلا”، دعي له كبار رجال الأعمال والسياسيين بالبلد.
كما تخوض بنما معركة دبلوماسية وقانونية في مواجهة منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية إثر رفضها تطبيق نموذج التبادل التلقائي للمعلومات المصرفية المالية بين الدول الأعضاء للمنظمة، وتمسكها بوضع نموذجها الخاص الذي يقوم على التبادل الثنائي بطلب من السلطات المعنية بكل بلد.
ورفضت مجموعة من المسؤولين الحكوميين ورجال القانون ببنما ربط فضحية مكتب (موساك فونسيكا) باسم البلد، على اعتبار أن بنما تعد مجرد حلقة ضمن شبكة معقدة تشمل عدة بلدان، وأن جل الشركات الوهمية التي تم تأسيسها في هذا السياق توجد مقارها خارج بنما.
من جانبه، نفى المحامي رامون فونسيكا مورا، أحد مؤسسي مكتب المحاماة (موساك فونسيكا) ومستشار رئيس الجمهورية خوان كارلوس فاريلا، أن يكون متورطا في أنشطة “غير قانونية” بالبلد، مشددا على أن هذه “الاتهامات لا أساس لها، وآثارها ستكون محدودة على بنما”.
وأكد في تصريحات للقناة المحلية (تي في إن) أن مكتبه، الذي تأسس، قبل حوالي 40 سنة، “مسؤول عن تأسيس الشركات مجهولة الاسم وليس على طريقة تسييرها”، موضحا أن أهم المتعاملين معه هم وسطاء ومصارف ومكاتب محاماة ومحاسبة دولية تعمل على تدبير ثروات زبائنها.
من جانبها، أبرزت النائبة البرلمانية والرئيسة السابقة لهيئة المراقبة العامة للجمهورية، أنا ماتليدي غوميز، أن “تأسيس شركات مجهولة الاسم ببنما لا يعتبر جريمة، بل ممارسة قانونية في بلد يقوم اقتصاده بنسبة 80 في المئة على الخدمات، وخاصة الخدمات المالية”، معتبرة أنه إذا كان الأمر مخالفا للمعايير الدولية فيتعين “مساءلة النظام القانوني والمالي للبلد برمته”.
وأوضحت أنه على بنما مواكبة التطور الذي تشهده القوانين العالمية المتعلقة بالمجال، خاصة وأنه يمكن استغلال بعض الثغرات للقيام بأنشطة مخالفة للقانون، نافية أن “تكون بنما جنة ضريبية بأي شكل من الأشكال، نظرا لوجود قوانين مؤطرة”.
وتتوفر العاصمة بنما على مركز مالي دولي متخصص في تقديم الخدمات المالية الدولية، أشرف خلال السنة الماضية على تدبير أصول مالية دولية ومحلية بقيمة تفوق 118 مليار دولار، في بلد لم يتعد حجم ناتجه الداخلي الخام 53 مليار دولار في السنة ذاتها.
وخلفت هذه التسريبات ردود فعل متباينة لدى قطاع واسع من المجتمع المدني، الذي دعا إلى تقوية النظام المالي للبلد لمحاربة الأنشطة غير القانونية وضمان مزيد من الشفافية، بالإضافة إلى ضرورة تشديد المراقبة على مكاتب المحاماة والمحاسبة والخدمات المالية.
ويبدو أن فضيحة “أوراق بنما” ستشدد الضغوط على الحكومة البنمية في ظل سعيها إلى الحفاظ على نظامها المالي والقانوني القائم على “السر المصرفي” و”خصوصية الشركات المجهولة الاسم”، في عالم يسير نحو إقرار مزيد من الشفافية ومحاربة التهرب الضريبي.