إذن، ليس والي الرباط وحده من استفاد من بقعة أرضية شاسعة في منطقة فخمة من العاصمة بثمن بخس، بل لائحة طويلة من المسؤولين الحاليين والسابقين، المدنيين والعسكريين، الأحياء والأموات، على رأسهم وزير الداخلية محمد حصاد وزميله في المالية محمد بوسعيد، اللذين دبجا بلاغا على عجل للدفاع عن السيد الوالي، يذكرنا بما قاله شاعر قديم: “ويجري على من مات دمعي// وماله بكيت ولكن بكيت على نفسي”، واذا ظهر السبب بطل العجب!
لقد توضحت الصورة أكثر: عبد الوافي لفتيت، الذي سماه البعض عبد الوافي “التفويت”، ليس إلا الشجرة التي تخفي الغابة، غابة “طريق زعير” قرب الگولف الملكي في ضواحي العاصمة. إذ يبدو أن “التفويت” في المغرب عائلة كبيرة و”محترمة”، تضم مستشارين ملكيين وولاة وجنرالات وزعماء أحزاب ووزراء سابقين… وما خفي كان أعظم!
ولعل أطرف شيء في القضية هو اسم الفئة التي ينتمي اليها هؤلاء المحظوظون: “خدام الدولة”. أي دولة؟ العميقة أم العتيقة أم الصديقة أم السحيقة أم التي تصيبك ب”الشقيقة”؟ لا اعرف، لكن المؤكد ان بلاغ الوزيرين زاد الطين بلة، والتسريبات التي تلته أجهزت على ما تبقى. الفضيحة مدوية، “بجلاجل” كما يقول إخوتنا المصريون . الناس الذين يطاردون “البوكيمون” في الشوارع باتوا يطاردون “خدام الدولة” على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا احد يعرف من سيسقط في الشباك وكيف ستنتهي القصة. في انتظار ذلك، هناك أسئلة مشروعة يطرحها المواطنون: ما الذي يجعل الجنرال أكثر خدمة للدولة من العسكري الذي أمضى سنوات محترمة في سجون البوليزاريو، مثلا؟ ما الذي يجعل الوالي أكثر تفانيا في خدمة الدولة من الشرطي أو المخزني أو الدركي البسيط؟ ما الذي يعطي أولوية للوزير على المعلم أو الممرض أو الطبيب او المحامي؟ وهل موظف السلم التاسع والعاشر أقل إخلاصا في خدمة الدولة من الزعيم الحزبي؟ وماذا عن عامل البناء وحارس السيارات وماسح الأحذية والصباغ والنجار والحداد والفلاح… لماذا لا يستفيدون من هذه البقع الأرضية؟ أليسوا هم ايضا من “خدام الدولة”؟
لأن الرباط عاصمة المملكة، ولأن فيها القصر الملكي والوزارات والإدارات والمراكز الحيوية، ولأنها واجهة البلاد ومختبر إصلاحاتها، لم تكن المدينة في حاجة إلى فضيحة من عيار تفويت 4000 متر للوالي المحترم، في زمن اصبحً فيه المواطن يصطاد “البوكيمون” في الشارع والمفسدين على مواقع التواصل الاجتماعي. وويل لمن اشارت اليه الاصابع.
العاصمة لم تستيقظ بعد من فضيحة العمدة الذي “فقد عقله” كي يغادر “ريضال” بتعويض سمين، واسترجعه كي يترشح للانتخابات ويرأس مجلس المدينة، ومن الصعب الا نرى رابطا بين قضية الوالي وملف العمدة المحترمين، خصوصا ان الاول ضيق الخناق على الثاني، ومنعه من تمثيل المدينة في المحافل الرسمية، قبل ان يبت القضاء في “جنونه”.
لا شك أن موسم “الضرب تحت الحزام” انطلق، مع اقتراب موعد الانتخابات، وكل الخوف أن تؤدي هذه الصراعات غير محسوبة العواقب إلى الإجهاز على ما تبقى من مصداقية في الحياة السياسية والإدارية للمملكة، وتفضي إلى مزيد من العزوف عن الشأن العام وعن الانتخابات.
حتى لو افترضنا أن التفويت “قانوني”، بموجب مرسوم 1995 الذي يتحدث عنه بوسعيد وحصاد، فإنه غير أخلاقي، باعتباره تجسيدا للريع في أبشع صوره، ويمكن أن يهضم المغاربة -على مضض- تمتع مسؤول كبير في الدولة ببقعة تمتد على اربع كيلومترات مربعة بسعر زهيد قبل عشر سنوات أو أكثر، لكن من الصعب أن تجعل الشارع “يبلع” الصفقة ذاتها في 2016، في ظل دستور خرج من رحم التظاهرات الشعبية ضد الفساد والريع والظلم الاجتماعي.
في بلد يعيش فيه ملايين المواطنين تحت عتبة الفقر، في أقفاص صغيرة و أكواخ مهترئة و “براكات” من القصدير و خيم على أقدام الجبال، بلا ماء ولا كهرباء ولا واد حار، يصعب أن تمر هذه التفويتات. هذا ما يقول عنه المغاربة ” زيد الشحمة فضهر المعلوف”!
البلاد التي…
جريدة المساء/ الخميس 28 يوليوز 2016