“كار رابيد”.. أيقونة النقل الحضري في دكار تعيش آخر أيامها

هي عربات من نوع (رونو إس جي 2) ظلت على مدى أربعين سنة تؤثث شوارع العاصمة السنغالية، وتضطلع بدور لا محيد عنه في شبكة النقل المشترك بها، بل وصارت رمزا ثقافيا للسنغال.. إنها “كار رابيد”، أيقونة النقل الحضري في دكار التي تعيش آخر أيامها.

بألوانها الفاقعة التي يغلب عليها الأزرق والأصفر، وعبر الكتابات والزركشات التي يبدع (فنانو الشارع) في رسمها عليها، تحولت هذه العربات إلى لوحات تشكيلية تزين صفحة دكار، وظلت منذ سنة 1976 تذرع شوارعها، وتقدم لساكنة المدينة التي يفوق تعدادها 3 ملايين ونصف مليون نسمة، خدمة نقل بكلفة زهيدة.

وحسب معطيات استقتها وكالة المغرب العربي للأنباء من ديور مباكي ديا، المكلفة بالتواصل بالمجلس التنفيذي لوسائل النقل الحضري بدكار، فقد كشف بحث حول الحركية والولوج للخدمات الحضرية في العاصمة السنغالية، أجراه المجلس سنة 2015، أن منطقة دكار تشهد 700 ألف تنقل عبر وسائل النقل العمومي يوميا، 20 في المائة منها تؤمنها حافلات “كار رابيد” (أو الحافلة السريعة باللغة الفرنسية).

ملايين من الكيلومترات قطعتها هذه العربات التي اجتهدت أيادي الحدادين والمكيانيكيين السنغاليين في “إعادة هيكلتها” لتصبح “منتوجا سنغاليا خالصا” قادرا على استيعاب أزيد من 20 مقعدا، ثلاثة منها مثبتة إلى جانب السائق. وهي على عكس ما يوحي به اسمها، ليست سريعة جدا.

وتتباين أسعار الرحلات التي تؤمنها (كار رابيد) حسب المسافة التي تقطعها، لكن أدناها لا يتجاوز 50 فرنكا إفريقيا (أقل من درهم مغربي واحد)، وهو سعر يقل عشر مرات على الأقل عن سعر سيارة الأجرة لأدنى مسافة.

وعلى مر السنوات، أصبحت هذه الحافلة جزءا لا يتجزأ من مشهد دكار، بحيث اندمغت في ذهنية زوار العاصمة الذين دأبوا على التقاط صور إلى جانبها، أو اقتناء لوحات فنية وبطاقات بريدية ومجسمات مصغرة لها كتذكار يحملونه معهم عند الوداع. بل إن ذكر السنغال أصبح لصيقا بذكرها في كل محفل.

وفي مؤشر على هذه الرمزية الدالة، اختيرت هذه “العروس” لتصبح واحدة من المعروضات في “متحف الإنسان” بالعاصمة الفرنسية بباريس، باعتبارها رمزا ثقافيا للسنغال المعاصرة، وذلك ابتداء من أكتوبر المنصرم.

وفي مقابل هذه الحمولة التاريخية والثقافية المهمة، فإن الحالة التقنية لهذه الحافلات لم تعد تسمح لها، حسب المسؤولين عن قطاع النقل، بالاستمرار في أداء مهامها، حيث قرر المجلس التنفيذي لوسائل النقل الحضري بدكار، وقف العمل بها ابتداء من سنة 2018، في الوقت الذي تم الشروع في تعويضها بحافلات أخرى.

وأثار قرار سلطات العاصمة هذا، وما زال، نقاشا حول جدواه ومدى استحضاره للبعد الثقافي أساسا قبل اتخاذه. فإذا كان البعض يعتب على هذه العربات تقادمها وتهالكها وخطورتها على الناس والبيئة، يرى آخرون أن “إحالتها على التقاعد” سيفقد المدينة خاصية وعنصرا يميزها عن كل مدن العالم.

وكان مدير المجلس التنفيذي لوسائل النقل الحضري بدكار، أليون تيام، أكد لحظة الإعلان عن هذا القرار أن “(كار رابيد) قدمت الكثير من الخدمات للساكنة في مجال النقل. ولكن وقتها الآن قد انتهى. إنها عربات تتسبب في التلوث، وأصبحت مصدر غياب للسلامة الطرقية. وقد سطرنا كهدف وضع حد لوسائل النقل هذه”.

وبالفعل، فإن زوار ورشة إصلاح هذا النوع من العربات، والقابعة خلف شارع أندري بيتافان (وسط المدينة)، يرون كيف يجتهد الميكانيكيون واللحامون في إصلاح هياكل هذه الحافلات التي تقادم بها العهد، وبعث الحياة في محركاتها، بل إن بعضهم يستغربون أن كيف لهذه العربات أن تظل قادرة على الاستمرار رغم بلوغها من الكبر عتيا، وكيف لها أن تحترم معايير السلامة الطرقية وهي على هذه الحال.

وفي صورة تعكس هذا الواقع، تناقلت عدد من المواقع الإلكترونية المحلية مؤخرا، مقطع فيديو يظهر فيه سائق حافلة من هذا النوع وهو يستعمل صافرة خلال الرحلة عوضا عن منبه العربة الذي ألم به العطب.

ومن ضمن الذين لم يرقهم القرار، هناك إبراهيما، طالب جامعي (21 سنة)، الذي عبر في تصريح للوكالة عن امتعاضه من القرار “لسبب ثقافي محض”. “هذه الحافلات تشكل تراثا ثقافيا يمتد لأزيد من 40 سنة. كما أنها تعد أيقونة للسنغال بحيث لا يمكن أن نراها في أي مكان آخر في العالم.. وسحبها من الشوارع يعد خسارة حقيقية لرمز ثقافي مهم”.

وأما الشيخ أحمد تيديان (34 سنة)، الذي يستقل (كار رابيد) يوميا من منزله بأحد الأحياء الشعبية إلى وسط المدينة، فاعتبر في تصريح مماثل، أن هذه الحافلات، على الرغم من الزحام الذي تشهده، فهي تشكل “مكانا لمناقشة المشاكل اليومية للسنغاليين.. إنها أيضا وسيلة نقل بالنسبة لأولئك الذين لا يمكنهم التنقل عبر سيارة الأجرة ذات الأسعار المرتفعة”.

وأيا يكن الموقف من قرار منع (كار رابيد) من السير في المستقبل القريب، فقد تمت مباشرة التعويض التدريجي لهذه العربات منذ سنوات. وحسب المكلفة بالتواصل بالمجلس التنفيذي لوسائل النقل الحضري بدكار، فقد تم الشروع في تجديد حظيرة وسائل النقل الحضري بالعاصمة منذ سنة 2005.

وأبرزت امباكي ديا أنه تم الشروع في تعويض “كار رابيد” بحافلات أخرى من نوع (طاطا موتورز) من الهند، وأخرى من الصين، بدأت 1307 عربة منها تسير في شوارع دكار وحدها. كما تم طلب 300 حافلة أخرى سنة 2015، وستغني حظيرة العربات بالعاصمة سنة 2016.

وإلى أن يحين أوان “تقاعد” هذه العربات، سيظل سكان العاصمة السنغالية من البسطاء أساسا، يستفيدون من خدماتها، يستعينون بها على التنقل في أرجاء دكار، وتظل هي ترافقهم في رحلة كفاحهم في البحث عن لقمة العيش وقضاء الأغراض دون أن تدير لهم ظهرها حتى وهي تعيش آخر أيامها.

Total
0
Shares
المنشورات ذات الصلة