دُعيت إلى طنجة كاتبًا وشاعرًا من أجل المشاركة في خيمة محمد شكري ومحورُها هذه الدورة (شعراء في ضيافة شكري)، ولم أكن أتوقّع أن الأمر سينتهي بي “مذيعًا مغمورًا” في تدوينة رعناء مع نهاية فعاليات المهرجان. أمّا كيف حصل ذلك، فالقصة تستحق أن تُروى.
اتّصل بي الأصدقاء في مؤسسة محمد شكري لإخباري بأن مهرجان ثويزا، الذي يحتضن خيمة شكري ضمن فعالياته، سينظّم ندوة عن (الحاجة إلى التنوير)، واقترحوا عليّ إدارتها. وافقتُ على الفور، فالموضوع جدّي والأسماء المشاركة جديرة بالاعتبار، لِمَ التردّد إذن؟
افتتحتُ الجلسة بصرخة كانط التنويرية الشهيرة (أعْمِلوا عقولكم أيها البشر. فالله زوّدكم بعقول وينبغي أن تستخدموها) قبل أن أكثّف إشكالية الندوة في بضعة أسئلة: هل يمكننا أن نكون عقلانيّين وتنويريّين من داخل الإسلام عقيدةً وفكرًا؟ هل لا بدّ من “القطيعة” مع الموروث أم أنَّ بلورة تأويل عقلاني مستنير للدين ونصوصِه الأساسية لا يزال ممكنا في العالم العربي الإسلامي اليوم؟ أليس نجاحُ مثل هذا المسار في الغرب هو الذي مكَّنَ للتنوير والعقلانية هناك وأنتج المسيحية الليبرالية والأحزاب المسيحية الديمقراطية وقضى على العصبيات المذهبية والطائفية؟
أعطيتُ الكلمة أوّلًا للناشط الأمازيغي أحمد عصيد لما أعرفه عنه من قدرة على التركيز والذهاب إلى الجوهر، خصوصا وأننا نذَرْنا عشر دقائق لكل متدخّل في الجولة الأولى، على أن نعطيهم فرصتين أخريين للتفاعل مع أسئلة الحضور. بعد عصيد، تدخّل الفيلسوف التونسي المختصّ في أنتروبولوجيا القرآن الدكتور يوسف الصدّيق. قارب الصدّيق سؤال العودة القوية للمسألة الدينية لتحتل بالتدريج موقعًا مؤثّرًا في صلب العمل السياسي في عالمنا العربي. حسن أوريد، المؤرخ السابق للمملكة والأديب المعروف، تفاعل بدوره مع أسئلة الندوة قبل أن أعطي الكلمة للدكتور يوسف زيدان. مع زيدان طرحتُ سؤالين محدّدين: أولًا، هل من سبيل إلى الاشتغال على تراثنا الفكري والديني بأفق معرفي، أي دون أن نورِّط هذا التراث في معارك الحاضر السياسية والثقافية؟ ثم كيف يمكن للمثقف أن يحافظ على تعاليه المعرفي واستقلاله السياسي وسط سلطة تتعامل معه ببراغماتية وتتطلّع لاستخدامه باستمرار، وأصولية مُستفحلة تنحاز إلى القراءة الأحادية الضيّقة للدين، وجمهور عام عازف عن القراءة متبرِّم من المعرفة؟
مرّرتُ المكروفون للدكتور يوسف زيدان، ليفاجئني بسؤال خارج السياق: “هي السّت الطيبة ذي مش حَ تتكلّم ولّا إيه؟”، في إشارة إلى الباحثة المغربية المشاركة هي الأخرى في الندوة بيرلا كوهين. طلبت منه بلطف ألا يشغل باله بموضوعٍ من صميم مهمّتي. كنت مهتمًّا بالحفاظ على إيقاع الندوة حريصًا على البقاء في مقام الأفكار بدل تبديد زمنها في شرح تفاصيل ترتيب المداخلات. هكذا لم أوضح له مثلًا أنني أجّلتُ مداخلة الباحثة السوسيولوجية المغربية بيرلا كوهين للأخير، عكس ما تقتضيه اللياقة، باتفاقٍ معها. وذلك لأسباب منها ما هو تقني كتحدّثها بالفرنسية مثلا، على أن يتكفل الأستاذ حسن أوريد بتلخيص مضمون مداخلتها بالعربية بعد ذلك، ومنها ما هو منهجي، لأنني حاولت طرح سؤال التنوير في ثقافتنا العربية الإسلامية قبل أن نوسِّع المدار لتفتح لنا، وهي الباحثة المنتمية إلى الطائفة اليهودية في المغرب، نافذةً على تفاعُل اليهودية كديانةٍ مع فكر الأنوار.
لكن يوسف زيدان فاجأني بسؤال غريب، موجّه إلى القاعة هذه المرّة. سأل باستنكار مُفتعل: “الشاب خالد البارح كان بيغنّي، حدّ قال لو أمامك عشر دقائق؟ احتياج الأمة دي للغنا أو للفكر أكثر؟”. طبعًا، السؤال غلط. فنحن نحتاج الفكر والفن معًا، لا نفاضل بينهما ولا نزجُّ بهما في منطق التنافس المكذوب. لكن السؤال المجّاني ألهب حماس القاعة. يا لجدوى خطاب المزايدة السهل، لَكَم هو مدرٌّ للتصفيق! كان واضحا أننا بدأنا ننتقل من مقام التأمل والحوار إلى موضع التهريج ودغدغة عواطف الجمهور. تعفَّفتُ عن مقاطعة الرجل مرة ثانية لأوضح له أن لا شأن لي بالشاب خالد، وأنني مقتنعٌ تمامًا بحاجة الجمهور إلى الفكر والحوار، ولهذا أنا هنا. ولو كان يُشاطرني هذه القناعة، لحمل سؤالي على محمل الجدّ. لكن ما علينا، الرجل لا يريد الجواب. لا يريد الحوار أصلًا. يرفض الديالوغ، ويفضّل المونولوغ. لذا أفسحتُ له المجال لـ”يخطب” في “الجمهور” بحرية. فهو لا يريد من يؤطِّر مداخلته بسؤال. ويُؤْثر على العكس من ذلك أن يتداعى، أن يستطرد “براحته”، أن يقفز من موضوع إلى آخر. فليكن. قلت في نفسي: لأتركه على سجيته. لولا أن ما رشح به إناء زيدان لم يكن بالإمكان الصبر عليه.
فالرجل في تداعيه الحر بدأ يمارس إلغاءه للجميع. ألغى طبعًا دوري كمحاوِرٍ له لأنه لم يتفاعل مع سؤالي. انحرف عن موضوع الندوة وبدأ يزايد على الجميع مستدِرًّا التصفيق والقهقهات. سأل بعض “متابعيه” داخل الحضور: “هل سبق لكم أن سمعتموني أحيل على هيجل أو كانط أو مش عارف إيه؟ يا جماعة احنا سياق آخر”. حسنًا. لسنا كباقي البشر، وما يسري على العالمين لا يسري علينا بالضرورة. ربما حتى الديمقراطية لا تصلح لنا، بمنطق الرجل الذي يريد تنويرًا على المقاس يراعي “خصوصيتنا”. ثم إن الرجل قدّم نفسه باعتباره أستاذ فلسفة، فإذا به ينخرط في “إلغاء” رموزها. ولأنني استهللت الندوة بصرخة كانط، فقد شرح لنا أن كانط “عبيط أوي” وأنه “ساعات بيهبّل” وسفّه كتابه “نقد العقل الخالص”. ثم أتى الدور على زملائه في المنصة. كان الدكتور يوسف الصدّيق قد أتى على ذكر يوسف القرضاوي فقال له زيدان: “انت مالك ومال القرضاوي يا عمّ؟”. ولأن الرجل دعا إلى إطلاق ما أسماه “نداء طنجة من أجل التنوير”، فقد سخر زيدان من مقترحه بفجاجة. عصيد من جهته بلور فكرة متشعّبة مفادُها أننا في مأزق حضاري كبير. فبقدر ما يتصوّر الرجل أن القطيعة بمعناها الإبستيمولوجي ضرورية اليوم، يشعر أنها غير ممكنة، بل تكاد تكون مستحيلة. هذا الموقف المركّب لم يكلّف زيدان نفسه عناء تفكيكه أو مناقشته، ربما لأنه لم يكن ينصت بالإمعان المطلوب. لذا قوّض موقف عصيد من الأساس، وبطريقته التي لا تخلو من تبخيس وتهريج: “إيه حكاية قطيعة دي؟ قطيعة إيه يا عمّ؟ انس الموضوع ذا خالص. دي كانت موضة وخلصت”. وبعدها أثبت بطريقة مسرحية استعراضية أن ليس هناك من مثقف عربي عام. وإن كان ثمة واحد أو اثنان (من تراه يقصد؟) فهذا من قبيل الاستثناء.
وعلى حدّ ردّ الدكتور يوسف الصدّيق، الذي عقَّب بأنه “من السهل جدّا أن أُضْحِك القاعة، لكنني لا أؤمن بضرورة وجود عمرو خالد علماني”، لم يكن المقام مقام هزل. ولم يكن ضروريا ولا مقبولا أن يتبسّط زيدان معنا إلى الحدّ الذي يحكي فيه عن بناته وعن رَطْنهم بالفرنسية التي يسمّيها الانجليزية “المِدّلّعة”. حكايات غير ذات صلة بالموضوع يصرّ عليها لكي يظل خارج حوارنا. إذ لم يكن مقتنعًا أصلا بمبدأ الحوار. كان على العكس محكوما بمنطق “التباري” مع “غرمائه” الأحياء منهم والأموات. وسبيل يوسف زيدان لحسم هذه “المنافسة” هو الإلغاء. هكذا ألغى هيجل وكانط وأحمد عصيد ويوسف الصدّيق، لينال تصفيق الجمهور. الجمهور الذي لم ينتبه إلى أنّ الرجل لم يقدّم فكرة واحدة تُحسَب له، بقدر ما اكتفى بالرد المُتهافت الفقير إلى اللياقة على زملائه في المنصة وتسفيه ما جاؤوا به. وهو ما يخالف أعراف التناظر وأدبيات الحوار. فالمداخلة الأولى تخصّص في العادة لعرض أطروحة المتدخل الأساسية على أن يتمّ التفاعل بين المتناظرين لاحقًا خلال النقاش الذي اتّضح أنه لا يعني صاحب (متاهات الوهم). وهكذا بعدما أنهى الدكتور فصل الإغواء وانتشى بتفاعُلِ الأكفِّ الجائعة للتصفيق، ترك لأناه المنتفخة أن تمدّ رجليها، وأشعل سيجارته باسترخاء ما بعد النشوة. لذلك كان الخيط المنبعث من سيجارته أغلظ من خيط دخان.
لستُ هنا في مقام تبرير طلبي من يوسف زيدان الامتناع عن التدخين داخل القاعة. هذا أمر محسوم فيما أتصوّر. فالقانون يمنع التدخين داخل الفضاءات العمومية المسقوفة. رغم المنطق الفاسد الذي واجهني به الدكتور زيدان حينما تساءل مكابرًا: “هل هناك نص ديني يمنع التدخين؟”. وقد نبّهته لاحقًا أثناء الندوة إلى خطورة المزايدة على القانون بالنص الديني.
لكن الحقيقة أنني تلقيت ما نفثه الرجل في وجوهنا من دخان سيجارته باعتباره تكريسًا لعجرفة ظلّ يؤكّدها منذ بداية الندوة التي تأخّرَتْ لنصف ساعة تقريبًا، رغم أن الجمهور والضيوف كانوا جميعا في الموعد. أما سبب التأخير فهو أننا كنا ننتظر أن ينهي زيدان حفل توقيع مرتجل في بهو الفندق. لم يعترض أحد والحق يقال. انتظرنا إلى أن أنهى زيدان حفل التوقيع الذي لم يكن في الحسبان، لكي ينطلق لقاؤنا متأخّرًا. ومع ذلك كان صاحب (عزازيل) أكثر المتدخلين تبرُّمًا من طول الندوة، ومن تواصُلِ النقاش لما بعد الثامنة ليلا. بل كتب لي ورقة ينبّهني فيها إلى أننا تجاوزنا الثلاث ساعات. وقد حرصتُ على نقل تبرُّمه إلى القاعة وأنا أطالب المتدخلين بالإيجاز. لم أذكّره بأنه طالب في بداية الندوة بإعطاء الفكر ما يعادل وقت غناء الشاب خالد في حفل الأمس. لكنه كان يزايد لا أقل ولا أكثر، وحبل المزايدة دائمًا قصير.
الرجل عموما لم يأتِ من أجل النقاش، بل من أجل تشغيل طاحونة الكلام. ومَن أنصتَ إلى يوسف زيدان بإمعان في طنجة، سيلاحظ أنْ لا خيط ينظمُ حديث الرجل: كلامٌ مرسل على عواهنه بلا خطام ولا زمام. استطرادات سائبة لا تنتظم في منهاج ولا تعبأ بحجاج. استظهار محفوظات خارج كل سياق على طريقة “فاصِل ونُواصِل” (كان من نصيبنا فاصل جميل لحسن الحظ وهو قصيدة السهروردي البديعة: أبدًا تحنُّ إليكم الأرواح). كان يوسف زيدان معنيا بإغواء القاعة، ولعله نجح. لكنه أفشل حوارنا مع الأسف. والدليل ما نقرأه اليوم من تداعيات. ندوة كنّا نتمنى أن نساهم من خلالها في بلورة تشخيص لحالة الانسداد التاريخي التي نعيشها، والتي جعلت ديننا الذي تتصوّره شرائح عريضة في مجتمعاتنا “حلًّا” يصير “مشكلةً” بالنسبة للعالم اليوم. لكن مفكّرنا المشغول بالتباهي الفجّ بتعداد مؤلفاته ومريديه، لم يفهم أن أصدقاء الفكر أقلية في بلاد يحدث أن يُنكِّلَ بالعقل فيها حتى بعضُ أهل الفكر. والدليل أن كانط، واضع أسس الاتجاه النقدي في الفلسفة الغربية، الذي ظل يدافع عن الاستعمال العمومي للنقد في كل المجالات، انتهى عبيطًا أهبل عند صاحب (عزازيل).
أمّا أنت أيها الجمهور العازف عن القراءة المتبرِّم من المعرفة، ها هو زيدان جاءك حتى طنجة ليُصالحك مع نقصك، ويرفع عنك الإحساس بالحرج لأنك تجهل تلك المراجع التي أحال المتدخلون السابقون عليها من تراثك العربي الإسلامي ومن التراث الفكري الإنساني. فاضحك من كانط واستلق على قفاك، فأنت في حضرة يوسف زيدان.
لقد فاجأ الدكتور زيدان زملاءه في الندوة بعنجهية غريبة وتطاوس مُستهجَن، لكن المشكلة أكبر من مجرد سلوكٍ متعجرف. المصيبة هي أن منطق السوق، منطق الجمهور عايز كده، بدأ يزحف على الهوامِش والحِيَاض القليلة الباقية التي كانت محفوظة للعقل والنقد والجدل. والأدهى أن لعبة إغواء الجمهور العام حلّت محل الإقناع بالحجة العلمية والمنطق الرصين. ليصبح المطلب الرئيس هو إبهار الجمهور وإمتاع “قرّاء” لعلهم يتفرّجون على محاضرات الدكتور على الانترنت ويتفاعلون معه على الفيسبوك أكثر مما يقرؤون له فعلا. لذلك يجد نفسه حريصا على مؤانستهم ليبقوا على قيد الانبهار حتى لو انحرف بالندوة إلى جلسةِ “قومٍ يتحدّثون”.
لكن وبمنطق التصفيق، يمكن الجزم بأن يوسف زيدان قد “انتصر بالضربة القاضية” على يوسف الصدّيق وأحمد عصيد وباقي شركاء الندوة بعدما حوّلهم إلى “غرماء”. ليشهّر بهم جميعًا في تدوينته المتهافتة حيث كشف أنهم مجرد “فاشلين” أثارَ “الحضورُ الحاشد غير المسبوق” الذي حجّ إليه غيرتَهم (الجمهور حجّ إليه وحده وهو النجم فيما زملاؤه في الندوة ليسوا أكثر من كومبارس). أمّا فيما يخصّني فلستُ أكثر من “شاب مغمور قيل لي إنه مذيع”. والحقيقة أنني كنت أتمنّى لو تواضع الرجل قليلا وتجاوز معي منطق “قيل لي” وعاد إلى الانترنت. فقد بعث الله في هذه الأمة “سيدنا غوغل” ليخرج أهلها من ظلمات ثقافة الأذن والقيل والقال. فقد يكتشف أثناء بحثه أنهم لم يقولوا له كل شيء، وأنه لا يستفتي غير مريديه الذين لا يقولون لشيخهم سوى ما يحبُّ أن يسمع. فلربما كنتُ كاتبًا أيضًا، ولعلّ بعضَ كتبي منشورة في مصر التي أعرف وسطها الثقافي بما يكفي لكي أربأ بهذا الردّ عن أيّ انحدار إلى تغذية صراعات مفتعلة يريد بعض المتصيّدين في الماء العكر تأجيجها بين أهلنا في المغرب وأشقائهم في مصر التي نكنُّ لمفكريها وأدبائها وفنّانينها كلّ التقدير. أمّا الجادّون في الاستيضاح، فندوة طنجة أمامهم مبذولة على اليوتوب يمكنهم متابعتها كاملة. ولا شك أن القلة التي ستتابع الندوة حتى النهاية ستكتشف أن موضوعها يحتاج إلى المزيد من التأمل ومن السجال الفكري الرصين.
كيف يمكن إنجاز مشروع التنوير من الداخل: أي من داخل المنظومة الفكرية الإسلامية؟ هذا برأيي هو السؤال الأهم الذي كنت أتمنّى لو انخرطنا في مناقشته على الفيسبوك وغيره من المواقع الاجتماعية. أما سيجارة زيدان فهي أوهى من خيط الدخان الذي تسرّب منها ملوِّثا هواء القاعة. مؤذيةٌ فعلا، لكنها عابرة ولا تستحق كل هذا الصخب.
الرد على تبيان يوسف زيدان عن ماقاله عن الجزيرة العربية
http://aljazeeraalarabiamodwana.blogspot.com/2016/08/blog-post_65.html