إن أبرز ما يكرس طابع التفرد السياسي للنظام السياسي الأمريكي هو طريقة انتخاب الرئيس ؛ إذ ليس هناك طريق واضح وبسيط مثلما هو معمول به في النظام السياسي البرلماني التقليدي ، بحيث لايحسم أمر انتخاب الرئيس الأمريكي بالتصويت الشعبي المباشر ، بل إن أصوات الشعب تجمع على مستوى كل ولاية ، وتعطى لكل واحدة منها أصوات جميع الدوائر بها لصالح المرشح الذي يحصل على غالبية الأصوات الشعبية داخل هذه الولاية ، حيث يتمكن الفائز من الحصول على كل شيء، فيما لا يحصل الخاسر على أي شيء ، وهو ما يعرف في النظام الانتخابي الأمريكي ب ” قاعدة الوحدة “Unit rule.
إن هذه الخصوصية تمتد إلى الشروط المتعلقة بشخص الرئيس ، حيث اشترط المشرع الأمريكي على المرشح للرئاسة :
ـ أن يكون أمريكيا بالميلاد ؛
ـ أن يكون بالغا من العمر على الأقل خمسة وثلاثون سنة ؛
ـ أن يكون مقيما بالولايات المتحدة الأمريكية لأزيد من أربع عشرة سنة على الأقل ؛ ويرمي هذا الشرط إلى التحقق من مدى ارتباط المرشح بالتراب الوطني .
كما أن هناك شروطا أخرى يجب أن يتحلى بها شخص المرشح لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية كضرورة ابتعاده عن أي تشدد ديني أو مذهبي ، وتحليه بالأخلاق الحسنة ، إذ يكفي النبش في سجله لاسقاطه من قبل منافسيه في حالة الاخلال القيم بممارسات مشينة كقيادة السيارة في حالة سكر…، أو المجازفة بإدلاء تصريحات فيها طابع عنصري أو تمييزي ضد الأقليات العرقية أة ، مثلما حصل مؤخرا مع دونالد ترامب حينما تم تسريب شريط له دون معرفته يتحدث عن النساء الأمريكيات بقدر كبير من الازدراء ، لتوظف منافسته الديمقراطية هيلاري هذا الشريط بذكاء شديد ، ساهم في إضعاف شعبيته .
بعيدا عن شروط ولوج البيت الأبيض يطرح تساؤل آخر يتعلق بكيفية انتخاب الرئيس ألا وهو :
ـ كيف ينتخب هذا الرئيس ؟
إن انتخاب الرئيس الأمريكي عملية معقدة وطويلة تمتد على امتداد تسعة أشهر، حيث تنطلق محطاتها الأولية عبر الانتخابات التمهيدية التي تنطلق من شهر فبراير، وتمتد إلى غاية مطلع يونيو، ويختلف توقيت إجراءها بين الولايات الـخمسين، والأراضي الأمريكية التي لها وضعية خاصة كحالة بورتوريكو، وعلى امتداد هذه الانتخابات التمهيدية ينبغي أن يحصل المرشحون على عدد معين من المندوبين، وفي معظم الأحيان، يحتسب العدد نسبيا حسب نتيجتهم في الانتخابات، فالبعض يعطي كل أصوات المندوبين للفائز- وهذا الخيار من اختصاص الأحزاب حصرا، وفي ولايات أخرى يمكن فقط للناخبين المسجلين كديمقراطيين أو جمهوريين في اللوائح الانتخابية التصويت في الانتخابات التمهيدية لحزبهم، فيما تكون في ولايات أخرى الانتخابات التمهيدية مفتوحة أمام كل الناخبين بغض النظر عن انتماءاهم للحزبين الديمقراطي أو الجمهوري، هذا في الوقت الذي نجد فيه بعض الولايات كولاية آيوا، تتيح إمكانية إجراء الانتخابات التمهيدية للأحزاب ، كما أنها هي التي تحدد موعد إجراءها ، بحيث تنظم “مجلسا انتخابيا ” ، يضم الناخبين إلى جانب أعضاء الحزب ، وتطرح خلاله عدة مواضيع، من بينها مسألة التصويت لمرشح الحزب المفترض.
وفي خضم هذه الانتخابات التمهيدية، ينبغي على المرشحين نيل ثقة المندوبين، بحيث أن المرشح الذي ينال الأغلبية المطلقة من أصوات مندوبي حزبه يضمن تنصيبه مرشحا لخوض الانتخابات الرئاسية ، وهو أمر ليس بالسهل في حالة وجود مرشحين متعددين من نفس الحزب، فعلى سبيل المثال لا الحصر شهدت الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري لسنة 2012 صراعا قويا بين مختلف المتنافسين ،حيث تطلب الأمر من ” ميت رومني” خوض صراع انتخابي قوي مع منافسيه الجمهوريين استمر إلى غاية شهر أبريل 2012، ليتقدم على باقي منافسيه الجمهوريين بصعوبة بالغة، كما تطلب الأمر من المرشح الجمهوري لرئاسيات 2016 دونالد ترامب تحييد ستة عشر منافسا له من داخل الحزب الجمهوري، ليخوض صراعا انتخابيا غير مسبوق مع منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون.
ويعقد كل حزب مؤتمرا من الاثنين إلى غاية الخميس بفارق أسبوع بينهما، حيث يختار المندوبون المرشح في اليوم الأخير، وبإسدال هذان المؤتمران محطة اختيار مرشحيهما يكونا قد أعلنا انطلاق إشارة الانتخابات العامة.، ليخوضا بعد ذلك سباقا مباشرا قصد نيل ثقة الناخبين عبر إجراء ثلاث مناظرات تلفزيونية ، ومنذ سنة 1976، أمسى المرشحان الديموقراطي والجمهوري يتواجهان عبر هذه المناظرات التلفزيونية بشكل منتظم خلال شهري سبتمبر وأكتوبر، بحيث تكون نسبة المشاهدين جد مرتفعة ، فقد تجاوز عدد المشاهدين للمناظرات التلفزيونية لنيل منصب الرئيس الخامس والأربعين بين المرشح الجمهوري دونالد ترامب والمرشحة الديمقراطية هيلاري كلنتون ما يزيد عن 60 مليون مشاهد، وتشكل هذه المناظرات فرصة قوية للاطلاع الناخب الأمريكي على مدى جاهزية المرشح لرئاسة البيت الأبيض ومدى قدرته على الإجابة على مختلف القضايا التي يتخبط فيها المجتمع الأمريكي ، ويلعب الإعلام هنا دورا محوريا في توجيه الرأي العام الأمريكي، على اعتبار أن المواطن الأمريكي ليس لديه تلك الثقافة السياسية العميقة التي تخول له حسن الاختيار ، بحيث أن المرشح الذي يخسر الإعلام يكون قد خسر جانبا كبيرا من المعركة الانتخابية ، إذ لم نقل أنه يخسرها كليا ، مثلما هو حاصل اليوم في العلاقة المتشنجة بين دونالد ترامب ووسائل الإعلام الأمريكية حينما اتهمها بموالاة غريمته الديمقراطية هيلاري كلينتون.
إن ما يجعل الانتخابات الأمريكية جد متميزة هي طريقة انتخاب الرئيس ، فهو ينتخب بالاقتراع العام غير المباشر في دورة واحدة، بحيث لا ينتخب من قبل الشعب بشكل مباشر، بل من قبل هيئة تعرف باسم المجمع الانتخابي يصل عدد أعضاءها إلى 538 عضوا ، ففي كل ولاية، هناك عدد من ما يعرفون
” بالناخبين الكبار” يوازي عدد المقاعد المخصص لها في مجلسي الشيوخ والنواب (اثنان ثابتان لكل ولاية في مجلس الشيوخ، وواحد على الأقل في مجلس النواب بحسب عدد السكان)، وكلما كان عدد السكان مرتفعا كلما كانت تمثيلية الولاية كبيرا، والعكس صحيح، فعلى سبيل المثال تتوفر ولاية كاليفورنيا على 55 ناخبا كبيرا، فيما نجد لدى ولاية وايومينغ ثلاثة ناخبين فقط.
إن المرشح الذي يحصل على الأقل على أصوات270 من أصوات الناخبين الكبار يفوز في انتخابات الرئاسة ، بحيث يمكن استخلاص النتيجة انطلاقا من ليلة انتهاء الانتخابات، وبالتالي فإن المرشحين الديمقراطي والجمهوري يتركان جانبا الولايات التي تعتبر معاقل انتخابية إما ديمقراطية أو جمهورية ، ويركزان جهودهما على تلك التي من شانها أن تزيد من فرص فوزهما، وهي حاليا اثنى عشر ولاية ، يعتبر تصويتها حاسما كولايات فلوريدا، وأوهايو، وبنسلفانيا …. ، ويحدد موعد الانتخابات يوم الثلاثاء، الذي يلي أول اثنين في شهر نوفمبر، فيما لن يتولى الرئيس الجديد مهامه إلا في شهر يناير من السنة الموالية، في حفل ينظم في الهواء الطلق في العاصمة واشنطن.
مجمل القول أن هذا النظام الانتخابي الديمقراطي في جوهره يشكل ميزة من الميزات الأساسية التي جعلت من النظام السياسي الأمريكي ، نظاما ديمقراطيا في جوهره ، عجزت العديد من الدول على تقليده لتجنح نحو نظام رئاسوي ديكتاتوري، شمولي كما حصل مع دول أمريكا اللاتينية ، لأن الشروط الذاتية والموضوعية التي تمخضت عن التجربة الديمقراطية الأمريكية على امتداد ما يزيد عن قرنين كانت غائبة كليا عن هذه الدول التي أرادت استنساخ التجربة الأمريكية.