يتصل بي يونس مساء، نتحدث مطولاً عن الفيلم الوثائقي الذي ننجزه معاً، أخبره أني بدأت أشعر بالنعاس وأن لدي مقالاً علي كتابته الليلة قبل أن أستسلم للنوم، يسألني عن موضوعه أخبره أنه عن الإنجازات التي قام بها الشباب هذه السنة.
يقول لي إنه موضوع جميل، أنبهه أني لا اقصد فقط شباب المغرب بل شباب العرب، يسخر ويقول لي: “لقد انجزنا الكثير في المغرب، فيديو المغني سعيد الصنهاجي على يوتيوب عارياً، و’طحن’ محسن فكري بائع السمك”.
“هل فعلاً هذه إنجازات الشباب في المغرب لهذه السنة؟”، أتساءل مع نفسي وأنا أنصت ليونس، وفي نفسي أتساءل أيضاً: “ماذا نقصد بالإنجازات؟”. أنهي المكالمة وأهرع على صفحتي على فيسبوك أتأمل صور أصدقائي، وأشرطة الفيديو التي نشرها مارك لكل منهم يذكرون بسنة مرة بأحداثها وانجازاتها.
أطالع شريط الفيديو الذي اختاره فيسبوك من أجلي، صورة لي وأنا أشارك في مداخلة على قناة مغربية بصفتي مختصة في تحليل الخطاب الإعلامي، صورة لي وأنا بين أبناء المغرب في أقاصي الجبال المهمشة، صورة لي وأنا أنشر مذكراتي بعنوان “الطريق الى الربيع”، على صحيفة “الاخبار”، صورة لي وأنا ألقي محاضرة في الإسكندرية أمام ما يزيد عن 60 صحفياً، وصورة لي وأنا في المستشفى مع الطبيب الذي أجرى لي عملية جراحية.
“هل هذه إنجازات؟”، أتساءل وأنا أقرأ لفتاة مصرية تكتب عن تجربة فريدة من نوعها، هكذا رأيتها، فنشرتها على صفحتي كمصدر للإلهام، اعتقد أن اسمها كان “هبة”، اختارت وهي في العقد الثاني من عمرها، وبعد فشل قصة حب أن تغادر القاهرة، وتترك قلبها وذكرياتها هناك، وتحزم حقيبتها إلى مكان آخر، لم تغادر هبة مصر البلد. لكن غادرت جزءا منها إلى جزء آخر هو أيضاً منها، غادرت القاهرة إلى “ذهب”، مدينة مصنفة سياحية، تقول هبة إن لا عائلة لديها هناك، ومع ذلك اختارت الرحيل إلى “ذهب”، بقلب مكسور، ومال قليل، حلت بتلك البلدة السياحية الصغيرة، هناك استطاعت استئجار شقة، وإيجاد عمل في مجال السياحة، وتدريس اللغة الإنجليزية لأبناء البلدة.
تقول هبة أنها تشعر بنفسها حرة لأنها تستطيع الخروج بسروال قصير دون أن تتعرض للتحرش لأن المدينة التي اختارت اللجوء إليها مدينة ألفت التعامل مع السياح، وتنصح هبة أصدقاءها أن تحقيق حلم حياة جميلة ليس بالضرورة يتوقف على الهجرة خارج مصر، وأنه يمكن الهجرة داخلها إلى مكان أجمل كما فعلت هي.
لم تكن هبة الوحيدة التي لفتت انتباهي لهذه السنة من أبناء وبنات المنطقة، فتاة أخرى لا أذكر اسمها لكني أذكر أنها من الأردن، لمحت حكايتها وأنها اتصفح صفحات فيسبوك، ووقعت عيني على صورتها في صفحة “أناس من عمان”، تحكي الفتاة العشرينية أنها كانت في طريقها من الجامعة إلى المدرسة تصادف أطفالاً مشردين فما كان عليها إلا أن جمعتهم ذات يوم وبدأت تلقنهم بعضاً من دروس الإنجليزية، بدأ الفصل عشوائياً ببضع أطفال، ثم تحول هذا البضع إلى العديد من الأطفال، مما جعل الفتاة تنتظم معهم أكثر، وتفكر في إيجاد مكان لتدريسهم، تحكي أنها وهي في غمرة انشغالها بتلقين هؤلاء المظلومين الصغار مبادئ الإنجليزية كان يمر أناس بطريقها بعضهم يمدح مجهودها وآخرون يعيبون عليه، لكن الفتاة استمرت في تقديم رسالتها حتى باتت قصتها مع الأطفال حديث الأردن، وتم استضافتها في برامج تلفزيونية، واستقبلت من شخصيات سياسية تقديرا لرسالتها، والتزاما بأدائها رغم كل مصاعب الحياة في مشرق ومغرب هذه المنطقة.
أعود إلى مقاطع الفيديو التي اختارها لي مارك، واتساءل: “ماذا أنجزت هذه السنة غير ما أقوم به كل سنة من عمل روتيني بين الكتابة والمحاضرات والتدريب؟”، أفكر كثيراً وسرعان ما أتذكر اني هذه السنة كنت الحدث، لقد زرت إسرائيل، وخلق الأمر جدلاً كبيراً في المغرب، هل كان هذا إنجازاً؟ اسأل نفسي واجيب بدون تردد: “نعم، لقد كان إنجازاً عظيماً أن اكسر حاجز الخوف ليس في الذهاب إلى مكان يدخل في دائرة أماكن التوتر التي اشتغل بها، لكن حاجز الخوف في أن تذهب إلى إسرائيل وتقول أنا ذهبت إلى إسرائيل، فبين أكثر من 19 الف مغربي مسلم يتردد على إسرائيل القلة من يجهر بالأمر، القلة من تكون مستعدة لمختلف أنواع الهجوم من أصحاب اليمين وأصحاب اليسار ليس فقط لماذا ذهبت، بل أيضاً لماذا أعلنت انك ذهبت”.
أتأمل صوري مجدداً، وأتذكر أني قمت بإنجاز أخرى ربما وأنا في غمرة انشغالي بالعمل لم أنتبه إليه، ذاك اليوم الذي كنت فيه بالقدس رفقة المصور متوجهين إلى مقر الكنسيت، هناك وجدت نساء يرتدين ملابس بيضاء اللون ويحملن لافتات كتبت بالعبرية والعربية “نساء يصنعن السلام”، لم أكن أعرف أن حديثي إليهن وطلبهن الحصول على اسمي سيجعلهن يطلبن مني أن أشارك باسم نساء المغرب في حملة “أكبر سجاد في العمل للسلام”، ولم أكن اعرف أن القدر سيمنحني فرصة أخرى للعودة، واحمل بيدي قطعاً من بلدي المغرب كتبت عليها “الإسلام من السلام، حان وقت السلام”، وأن التقي بنفس النساء المؤمنات ان السلام بيد النساء ممكن، وأن اقدم اليهن بنفسي هذه القطع المغربية، وأن نشر صوري رفقتهن يهوديات ومسلمات سيجعل نساء كثيرات من بلدي يطلبن الانضمام إلى هذه الحركة النسائية، وأن يكن جزءا من صناعة السلام في هذه المنطقة التي تصر أن تجعلنا لا نعرف على أرضها طريقاً للسلام.
“لن أتحدث عن إنجازات شباب الغرب” أقول ليونس واذكره هو يرد ساخراً أن إنجازات العرب لا تتعدى الماسي والفضائح، أتصفح من جديد صور أصدقائي وهم يجاهدون الدنيا من أجل فرض وجودهم، واتصفح قصص هبة وفتاة الأردن، ونساء السلام وهن يقاتلن من أجل أن يكون مكان في هذا العالم لهن، وأقول في نفسي: “قد تكون هذه المنطقة ملعونة، لكن أكيد أن بهكذا نساء ورجالا تعويذة اللعنة ستفك، وأن إنجازات السنة تبدأ من حلم، وأن شبابنا لا بد وأن يستمروا في الحلم، حتى تصبح احلامهم إنجازات حقيقية”.