مشروع قانون 22-20 .. من حملة المقاطعة إلى حمزة مون بي بي

أثار مشروع قانون 20-22 نقاشا واسعا على شبكات التواصل الاجتماعي، كما حضي باهتمام السياسيين والخبراء في المجال. وقد استرعى انتباهنا الورقة التحليلية التي صاغها نوفل الرغاي باللغة الفرنسية، من حيث قيمتها، وحيادها، واهتمامها بعمق الأمور، فاخترنا في إحاطة ترجمتها بعد طلب الإذن من صاحبها الذي وافق مشكورا.

وللتذكير، شغل نوفل الرغاي منصب مدير عام الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، وكاتب عام الهيئة الوطنية لحماية المعطيات الشخصية، وقبل ذلك مدير مركزي للاستراتيجية والتسويق والعلاقات الدولية بالشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة، وكذا خبير لدى المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي. ونوفل الرغاي خريج المدرسة المحمدية للمهندسين سنة 2000، حاصل على ماستر في الإنتاج السمعي البصري والسينمائي من الجامعة الأمريكية بواشنطن العاصمة سنة 2017، استقر منذ 2014 بالولايات المتحدة الأمريكية حيث يعمل حاليا كخبير – مستشار في الإعلام والسياسات العمومية.

ولتعميم الفائدة، نشارك هذه الورقة القيمة مع قرائنا من أجل المساهمة في النقاش الجدي والرصين:

بالنسبة لمن لا يعرف المغرب جيدا، تعتبر قضية مشروع قانون 20-22 مناسبة سانحة لملامسة السوسيولوجيا السياسية المعقدة لهذا البلد.

فإذا نظرنا إلى الموضوع برمته، يبدو أن رد الفعل السريع والمهيكَل للرأي العام المغربي إزاء مصادقة المجلس الحكومي على هذا المشروع، يوم 19 مارس 2020، وخصوصا أثره الحقيقي على مسلسل اعتماده الذي كان مضطرا إلى انعراج غير متوقع عبر “لجنة للمراجعة”، يوحي بأن العزوف الانتخابي يتعلق بموقف ذي بنية ثقافية وليس بجهل أو قصور فكري. كما تؤكد هذه الواقعة أن المملكة ديمقراطية تعددية تراقب فيها الحكومة مواقف الشعب.

هكذا دقت الشبكات الاجتماعية المغربية ناقوس الخطر في الوقت المناسب، مع العلم أن الشكليات لم تراع في هذه النازلة، بحيث لم تكفل مسطرة المصادقة على هذا النص نشره مسبقا على موقع الأمانة العامة للحكومة، إضافة إلى أنه، حسب علمنا، لم تتم استشارة المؤسستين الدستوريتين المعنيتين، أي المجلس الوطني لحقوق الإنسان والهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، قصد إبداء الرأي القبلي، وقد كان من المجدي وقتئذ…

على الأقل، كانت هذه الخطوة، التي ينص عليها المشرع بشكل واضح في الظهير القاضي بإحداث الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري (المادة 3)، وبشكل قابل للتأويل في حالة المجلس الوطني لحقوق الإنسان(المادة 23 من القانون 15-76)، لامحالة ستجنب الحكومة لبسا جلياً، مقرونا بخلافات علنية حول المسألة من جانب مكونات الأغلبية الحكومية نفسها. فقد أصدرت الوزارة المكلفة بحقوق الإنسان رأيا مفصلا يفكك مشروع هذا القانون، ويشير في مكامن ومناسبات عدة لعدم دستوريته.

من الطريف أن هذا الرأي متوفر على الشبكات الاجتماعية، كما أن بعض أهم فقراته أعيد نشرها على صفحات بعض الجرائد الالكترونية الناطقة بالعربية. لن أتطرق هنا إلى هذا الرأي ولن أعيد التذكير بمضامينه لكني أود القول إني أتفق معها بشكل كبير باستثناء ما تعلق بالجزء الأخير منها، وهو الشق الزجري الذي يدعو إلى تقليص مدد العقوبات السالبة للحرية (مما يفيد أن وزارة حقوق الانسان تزكي إقرار هذه العقوبات) بشأن وقائع وأفعال تمِتُّ، في اعتقادي، لحرية الرأي والتعبير، أو على الأقل يتوجب النظر فيها من زاوية القوانين التي تحكم الصحافة والاتصال السمعي البصري بالذات.

من حيث الشكل دائما، يبدو أن هذا النص القانوني قد تم التعامل معه بنوع من الاستعجالية، رغم أهميته البالغة ورغم أن إشكالية أمن البنيات التحتية الرقمية والمضامين على الإنترنيت كانت مطروحة في المغرب للتفكير الاستراتيجي منذ ما يناهز عقداً من الزمان، على الأقل.

إذاً، لماذا الآن؟ ولماذا بهذه الطريقة؟ بل بماذا يتعلق الأمر في الحقيقة؟ وبشكل مبسط وقابل للفهم؟

في الواقع، كما استحضرت الورقة التقديمية لمشروع قانون 20-22 هذا، أنه انطلاقا من الملاحظة بأن تطور الشبكات الاجتماعية صار يشكل خطرا على الأمن الرقمي لمواطنينا، حدد المشروع المذكور لنفسه ثلاثة أهداف، ألا وهي أولاً سد الثغرات القانونية، خصوصا فيما يتعلق بالنظام الاقتصادي الرقمي العام، ثم ملاءمة قانوننا الوضعي مع المعاهدات الدولية الموقع عليها، وأخيرا تعزيز آليات مكافحة الجريمة السيبرانية عبر تصحيح التقاطعات والتداخلات بين مختلف النصوص القانونية المكونة للترسانة القانونية القائمة حالياً.

لا أحد يجادل في أن هذه الأهداف هامة جميعها.

لكن مشروع القانون لا يحقق أيا منها كما هو منتظر من، بل على العكس…

بالنسبة لملاءمة القانون الوضعي المغربي مع المعايير الدولية التي وقعت عليها المملكة، يستند العرض التقديمي للمشروع إلى اتفاقية بودابيست لمكافحة الجرائم المعلوماتية، غير أن هذه الأخيرة تركز على أمن البنيات التحتية المعلوماتية والتنسيق الجنائي في المجال الرقمي، مقتصرة في شق المضامين على معالجة البيدو بورنوغرافيا أساساً، وجانبا من الملكية الفكرية. إذن، من هذه الزاوية، يتبين أن مشروع قانون الأمن السيبراني رقم 20-05 المعروض على المجلس الحكومي يوم 13 فبراير 2020 هو الأكثر ملاءمة لتصريف الاتفاقية المذكورة والنصوص الدولية ذات الصلة المصادق عليها منذئذ، في القانون الوطني.

فمشروع القانون 20-05 هذا يعتبر النص الأمثل لتحقيق الهدف الثاني لقانون 20-22، الرامي إلى ضمان الأمن الاقتصادي الرقمي العام، بالنظر إلى ما قاله الناطق الرسمي باسم الحكومة عقب المجلس الحكومي ليوم 13 فبراير 2020، حيث صرح أن هذا القانون ” يهدف إلى وضع قواعد قانونية بشأن وسائل الحماية الرامية إلى تعزيز الثقة ودعم الاقتصاد الرقمي، وبشكل أعم، ضمان استمرارية الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية لبلادنا.”

أخيرا، بالنسبة للهدف الثالث، هدف تحقيق تجانس الإطار القانوني الجاري به العمل والوقاية من التداخلات بين مختلف النصوص المتعلقة بقضايا مماثلة أو مشابهة، يظهر أن مشروع القانون نفسه تتداخل فيه عناصر غير متجانسة…

أولا، بدل ملاءمة المصطلحات المستعملة مع مصطلحات القوانين المنظمة للصحافة (13-88) والاتصال السمعي البصري (03-77) والاتصالات السلكية واللاسلكية (96-24)، يعمل مشروع القانون المعني (20-22) على خلق اللبس ويزيد من حدة التباينات والتناقضات الموجودة باعتماده قاموسا جديدا خاصا به، لا يمت إلى الترسانة القانونية المعمول بها بصلة.

وها قد وصلنا إلى الحديث في المضمون. إذ أن هذا المشروع يضم عدة مواد (من المادة 13 إلى المادة 25) تدخل في باب القانون الجنائي، ضمن مسودة تحاول عبثا أن تبلور هندسة مؤسساتية للضبط والتقنين، إذ تنص على إحداث نظام أذون لمتعهدين محتملين لشبكات الاتصال الاجتماعية على التراب الوطني (وعددهم صفر حاليا) وإجراءات اتفاقية، مستحيلة، مع عمالقة الاتصالات الالكترونية العالميين، تضطلع بها إدارة أو هيئة لم يحدد لها هذا النص ماهية.

خلاصة القول، كان من الأجدر إلحاق بعض مقتضيات هذا القانون مباشرة بالقانون الجنائي، مع أن ذلك كان سيكون فائضا عن الحاجة لأنها لا تحمل أي قيمة مضافة ولن تصمد أمام تمحيص خبراء المنظومة القضائية. كما كان من الممكن أن تنضاف بعض المقتضيات الأخرى، بعد تعميق التفكير بخصوصها، إلى مدونة الصحافة والنشر، مع تخليصها من أبرز مميزاتها، أي تضمنها لعقوبات سالبة للحرية.

علاوة على ذلك، فإخضاع عمالقة الاتصالات الالكترونية العالميين، وبشكل أحادي، لتقنين دولة يظل حلما جميلا طالما راود عدة حكومات لدول ذات ديمقراطية عريقة، قبل أن تستفيق على حقيقة قصورها فيما يتعلق بضبط الشبكات الاجتماعية. حيث أن العمود الفقري لهذه الشبكات يوجد على تراب الولايات المتحدة الأمريكية، وهي دولة تحد من مسؤولية أولئك الفاعلين فيما يتعلق بالمضامين التي يبثها مستعملو تلك المنصات.  فالفقرة 230 من الفصل 47 من مدونة الولايات المتحدة تنص على أنه ” لا يجوز اعتبار أي متعهد أو مستخدِم لخدمة الكترونية تفاعلية ناشرا أو محررا للمعلومات الموفَّرة من طرف مقدِّم آخر لمضمون إعلامي “. لهذا، فإن الجميع يتفق اليوم على أن النهج الواجب اتباعه، مع الكثير من الحيطة نظرا لهشاشته، هو نهج الضبط المشترك بين هؤلاء الفاعلين والحكومات، في بيئة دولية متعددة الأطراف.

بعبارة أخرى، يشكل مشروع قانون 20-22 نوعا من الفسيفساء الظرفية (وأخجل من التفكير أن تكون امي نعيمة من أسباب هذا النزول) كان المضنون فيها أن تجيب آنيا عن إشكالية عبأت المجتمع الدولي كله لعدة سنين ولا تزال.

إن رواد الإنترنيت المغاربة لم يخطئوا الضن، فقد فطنوا إلى الفصول التي تتضمن إجهازا على الحريات أكثر مما يتضمنه القانون الجنائي ومدونة الصحافة والنشر مجتمعَين ونددوا بها، متقبلين عن طواعية أن يُمنعوا من إتيان سلوكات مثل سلوكات “حمزة مون بي بي”، لكن رافضين في نفس الوقت أن يحرموا من حق مقاطعة منتجات حسب اختيارهم.

على ذكر المقاطعة، ماذا عن الدعوة إلى المقاطعة في ظل المبادئ الدستورية التي تكفل حرية الرأي والتعبير والاتصال؟ وأقصد بالحديث هنا دعوة إلى المقاطعة لا تستعمل العنف المادي، ولا تلجأ إلى معلومة مضللة عن قصد ولا تحرض على تمييز منكَر (بسبب العرق، الدين، الجنس…).

في هذا الباب، يمكن عقد مقارنة مع الدعوة إلى المقاطعة في مدونة الانتخابات (قانون 9.97). إذ تقيد المادة 90 عقوبة التحريض على العزوف باستعمال “أخبار زائفة أو إشاعات كاذبة أو غير ذلك من طرق التدليس “. أما المواد من 91 إلى 95 فهي تتطرق إلى مختلف أشكال العنف التي من شأنها المساس بحرية التصويت، بممارسة حق الانتخاب أو بسير عمليات التصويت. إذن، فعكس مشروع قانون 20-22 لا تعد الدعوة إلى المقاطعة في حد ذاتها موجبة للعقوبة.

أكثر من ذلك، لنستحضر حملة استفتاء 2011، حيث استعملت بعض الأحزاب السياسية وبعض منظمات وفعاليات المجتمع المدني على مدار الساعة مدة البث المخصصة لها على التلفزات العمومية للدعوة إلى مقاطعة الاستفتاء، في وصلات أنتجتها وسائل الإعلام العمومية نفسها من موارد دافعي الضرائب! ولا تزال ذكرى خروج بلادنا من هذه التجربة عالية الكعب طرية في ذاكرتي،  كما لا أزال أحتفظ بقصاصات ثناء الصحافة الدولية على تلك التجربة الناجحة.

خلافاً لمن دبجوا مشروع قانون 20-22، نجحت الشبكات الاجتماعية المغربية، عن قصد أو عن غير قصد، في الفصل بين الجوانب التقنية المميِّزة للجريمة السيبرانية من جهة، والبعد التحريري الذي يدخل في إطار حرية الاتصال باعتبارها حقاً من حقوق الإنسان الأساسية، من جهة أخرى.

ثم، كيف يمكن الدفاع عن مشروع من هذا القبيل، في عز مناخ الارتياب المفروض من طرف كوفيد 19، كما أكدت ذلك المندوبية السامية لحقوق الإنسان والتي أثارت الانتباه إلى نزعة الإجهاز على الحريات التي قد تواكب تطبيق قوانين حالة الاستثناء الصحية؟

إذ لا يجب إغفال أن المغرب طرف في عدة اتفاقيات مرتبطة بحقوق الإنسان، أغلبها يتضمن التزامات خاصة بالإخبار وإنجاز تقارير، فضلاً عن التقارير السنوية من طرف المصالح الخارجية لمعظم القوى الغربية التي يحلو لها وضع حالة المجتمعات النامية تحت المجهر، أو تقارير مختلف المنظمات غير الحكومية المعروفة بتحليلها الدقيق لتطور حرية التعبير.

كما أن مقاربة تشريعية من هذا القبيل صارت أوهى اليوم بحكم فرض دستور 2011 لمعايير جديدة في هذا الميدان، وكذلك لكون هيئات الحكامة ببلادنا قد حملت نفساً جديدا وطريقة في العمل يصعب التراجع عنها دون النكوص إلى الوراء.

إن المملكة المغربية تتوفر حالياً على أدوات وكفاءات للتفكير بشكل أكثر رصانة وفعالية في مقاربة مندمجة لضبط المضامين على الإنترنيت، وليس فقط على الشبكات الاجتماعية. وتمر الحلول الفعلية لهذه الإشكالية عبر تفكير جماعي يضم الفاعلين في مجالات الاتصالات والاتصال السمعي البصري والصحافة والمجتمع المدني، ويندرج بالضرورة في مسار إرادوي يتناغم مع شركائنا الأوروبيين والأفارقة. مثل هذا الطريق، الشاق لكن الجدي، هو الذي يتوجب سلوكه قصد وضع منظومة ضبط فعالة لا تحترم حقوق الإنسان فحسب، لكن كذلك الذكاء الجماعي للمغاربة …

نوفل الرغاي
واشنطن، 30 ابريل 2020

Total
0
Shares
المنشورات ذات الصلة