كان.. عيوش يستعرض أفراح وأتراح “شيخات” فن العيطة في “الجميع يحب تودا”

أ.ف.ب
يظل المخرج المغربي نبيل عيوش وفيا لأسلوبه السينمائي المثير للجدل في الساحة المغربية. ويتسلل من جديد عبر فيلمه “الجميع يحب تودا” لمناطق خفية أو محظورة في المجتمع، لا يتجاسر عليها عادة زملاؤه من المخرجين المغاربة. لكن دائما بعين سينمائية ذكية، تضفي لمسة من التميز على أعماله مهما اختلفت وجهات النظر حولها.

هذا الحفر المستديم سينمائيا في الجروح الغائرة للمجتمع المغربي، يقوم به هذا المخرج المتألق بموهبة فنية، أكسبته احترام وتقدير الأوساط السينمائية دوليا، وهذا ما يفسر حضور أعماله في هذا الحدث السينمائي الدولي باستمرار إلى جانب زوجته مريم التوزاني التي تعتبر شريكته في الحياة وفي المشاريع السينمائية أيضا. وشاركته في هذا العمل مهمة كتابة السيناريو.

وبتقديم فيلمه ضمن الاختيارات الرسمية في قسم”العرض الأول” مساء الجمعة، يشارك عيوش للمرة الرابعة في مهرجان كان، إذ سجل أول حضور له في هذا العرس السينمائي العالمي في 2012 بـ”يا خيل الله” ثم في 2015 بـ”الزين اللي فيك” الذي لم يتقبله البعض في المجتمع المغربي، ووجهت له انتقادات حادة بحكم المشاهد الجريئة التي تضمنها الفيلم، فيما دافعت عنه أطراف أخرى، معتبرة أن العمل المذكور لم يثر إلا جزءا من المسكوت عنه في مجتمعه. أما آخر مشاركة له، فتعود إلى 2021 بفيلم “علي صوتك”.

تكريم الشيخات وفن “العيطة” سينمائيا

قبل بداية عرض الفيلم ألقى تيري أفريمو المندوب العام لمهرجان كان كلمة، أشاد فيه بما يقدمه المغرب من أعمال سينمائية، معتبرا إياه “بلدا سينمائيا كبيرا”، كما نوه بالعطاء المتواصل لنبيل عيوش، الذي بفضله يسافر المهرجان عبر أجواء مختلفة من المملكة بتعدد ثقافاتها، “وهذه المرة سيأخذنا معه لعالم الموسيقى”، التي تظل بعض ألوانها المغربية مجهولة من قبل عشاق الأنغام الشعبية سواء في الأوساط العربية أو عبر العالم.

وهذا اللون المتحدث عنه في الفيلم هو ما يعرف بفن “العيطة”، التي لها تاريخ عريق في المغرب، وظهرت قبل قرون بمنطقة آسفي على المحيط الأطلسي غرب البلاد، وارتبطت خاصة بالمقاومة.

ويحكى أن النساء كانت ممنوعات من الغناء، لكن امرأة تدعى خربوشة وتحول اسمها الفني فيما بعد إلى الشيخة خربوشة، وصارت أسطورة ترددها الأجيال، تمردت على تقاليد القبيلة وقمع السلطة وقتها، موظفة “العيطة” كأسلوب نضالي، إلى أن اعتقلت في النهاية فيما تختلف الروايات حول مصيرها.

و”العيطة قبل أن تكون غناء فهي مقاومة”، يقول عيوش في مقابلة نشرها موقع المهرجان. لكن لا يمكن ذكر هذا الفن الموسيقي والغنائي دون استحضار “الشيخات” اللواتي يؤدين هذا اللون الغنائي الشعبي، وبقين على الهامش، خاصة بعد أن أصبح هذا الفن مهنتهن ومصدر رزق، لنساء مورس على الكثير منهن الظلم والحيف فقط لأنهن اخترن الغناء.

ويفسر عيوش سبب هذا الاختيار: “لقد كانت الشيخات دائما حاضرات في أفلامي منذ زمن طويل، لأنهن كن يستوقفنني دائما، ويؤثرن في، وأردت أن يكنَّ يوما ما في قلب أحد أعمالي، في وسط إحدى قصصي. لقد كنت دائما معجبا بالنساء القويات، بدون شك لأنني نشأت مع والدتي التي هي مثلهن”.

“الجميع يحب تودا”

ببداية موسيقية بإيحاءات عالمية، ينتقل المخرج شيئا فشيئا لإيقاع موسيقى “العيطة”، ليدخل في سرد سينمائي متماوج بين الفرح والحزن لحياة الشيخة تودا، التي عشقت هذا الفن، وتحلم أن تكون مغنية بارزة فيه، تضمن قوتها وقوت طفلها الوحيد الذي يعاني من مشكلة إعاقة.

لكن في مجتمع ذكوري ينظر للمرأة كجسد قبل أي شيء آخر، ستكون باستمرار عرضة للاعتداء والاستغلال حتى من رجل سلطة متزوج، لكن هذه المرأة كانت قادرة أن تقول لا بقوة وبجرأة عندما تقرر ذلك. وإن كان الظلم أقوى من هذه المقاومة كما أظهر الفيلم في أول المشاهد التي تعرضت فيه للاغتصاب من مجموعة من الرجال.

ظلت بطلة الفيلم حاضرة باستمرار في جميع مشاهده لربما لطول القصة وحيثياتها واختيار المخرج سرد أجزاء مهمة من تفاصيلها، أو لأنه تعمد هذا الأمر كأسلوب لإبقاء المشاهد وفيا لتسلسلها حتى النهاية. قصة مزجت بين لحظات ضاربة في الحزن واليأس بأخرى احتفالية تعيد للرأس مزاجه وتسعد النفس أيضا.

وهذه المقاربة يفسرها المخرج بأنها تشبه حياتهن، فهي “مصنوعة من نفس الشيء”، فرح وحزن، و”يملكن هذا القدرة الخارقة على الانتقال بينهما”، لأنهن مطالبات بذلك. “هذا استلهمته من قصص حياتهن التي حدثنني عنها. قصص تركتني أحيانا بدون صوت. إنه أمر صعب، لكنها الحقيقة” التي صنع منها عملا متميزا صفقت له القاعة بحرارة كبيرة، خاصة وأن تاريخ السينما سيظل يذكر بأنه أول مخرج يمنح صوتا لهؤلاء النساء في مهرجان كان.

“رفعت عيني إلى السماء”

في صباح نفس اليوم عرض الفيلم المصري “رفعت عيني إلى السماء”، إذ شاهد الجمهور هذه العمل في إطار النسخة 63 لمسابقة “أسبوع النقاد” الموازية في مهرجان كان والتي تتبارى فيها سبعة أفلام لنيل جائزتها.

والفيلم من إخراج ندى رياض وأيمن الأمير، اللذين سبق أن وقعا معا الفيلم القصير “الفخ” الذي شاركا به في هذا الملتقى السينمائي الدولي في 2019، ويشتغل المخرجان منذ سنوات جنبا إلى جنب، ولربما هي تجربة تكون فريدة في العالم العربي، حيث تنعدم مغامرات سينمائية من هذا النوع بالمثنى، والتي تذكرنا بمسار المخرجين البلجيكين الشقيقين جان بيار ولوك داردين.

“رفعت عيني إلى السماء” يمكن القول إنه فيلم بامتداد عربي، يجد فيه أي مشاهد ينتمي إلى المنطقة ذاته، لأن معضلاتها وإشكالاتها متشابهة عموما مهما اختلفت الجغرافية. فهذه المنطقة محاصرة بأزمات كبرى، تكاد تكون مشتركة فيما بينها، كالفقر والأمية والتطرف والحيف بحق المرأة. كل هذه الموضوعات نجدها في عمل رياض والأمير بطريقة سينمائية محبوكة اختار وضعها في بوتقة قصة تحرض المشاهد على التفاعل معها.

وصاية ذكورية تخنق أحلام فتيات

هذه القصة التي اختار لها المخرجان مساحة تتوافر فيها كل الشروط لسردها سينمائيا بمنطقة الصعيد، تركز على مجموعة مسرحية من ستة بنات في مقتبل العمر، يمارسن مسرح الشارع بعشق لا يضاهى، ويحرقن الكثير من الشفرات الاجتماعية، التي فرضت على المرأة عموما كالبقاء في البيت والرضوخ لطلبات الرجل دون أن يكون لها حتى الحق في مناقشته.

لكن هذه الوصاية المجتمعية على المرأة ستظل تلاحقهن على الرغم من أنهن تربين في أسر متفتحة ومتفهمة لأحلام بناتها. وستصطدم طموحاتهن مع مرور الوقت بعقيلة الرجل الذي سيصير زوجا، ويزج بهن في قفص مجتمعي فصل على مقاس فهمه الضيق لدور هذه المرأة.

فيلم يستحق المشاهدة، لأنه يضع المشاهد العربي عموما أمام مرآة، يرى فيها تناقضاته، دون أن يملي عليه المخرجان اختيارات مجتمعية معينة ويدعوه لتبنيها، بل أرادا أن يكونا متواضعين في طرحهما لقضية الوصاية على المرأة. وصاية تحضر فيها السلطة الذكورية للزوج عندما تغيب في الأسرة، وتكون مدعومة من طرف رجال الدين.

Total
0
Shares
أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المنشورات ذات الصلة